تأتي الرياح بما لا يشتهي صناع السينما أو الجمهور وذلك بسبب فايروس كورونا المستجد، الذي يكاد يشل الحياة في العالم بسبب سرعة انتشاره والرعب الذي تسبب فيه بالعديد من الدول التي تكبدت خسائر مادية وبشرية فادحة، مثل الصين ومن بعدها إيطاليا وإسبانيا والآن في الولايات المتحدة الأمريكية وغيرها من بلدان العالم التي تكافح من أجل مجابهة هذا الوباء العالمي الذي لم يشهد العالم له مثيل منذ الإنفلونزا الإسبانية التي ضربت العالم منذ ما يقرب من 100 عام.
ولا ينحصر دور السينما والصناعة السينمائية في دور الترفيه فقط. ولكن هناك العديد من الجوانب الاقتصادية والثقافية، فعلى سبيل المثال في دولة مثل الولايات المتحدة الأمريكية توفر هوليوود حوالي نصف مليون فرصة عمل وتحقق سنوياً أرباح تقدر بمليارات الدولارات، كما أنها تمثل قوة ناعمة تروج لثقافة الدول، ولمعالمها السياحية، ومثال آخر على ذلك السينما الهندية التي كانت ولازالت على مدار عقود أحد أبرز أسباب الرواج السياحي للبلاد.
وعلى الرغم من أن الصورة تبدو قاتمة بعض الشيء لكن لها جوانب إيجابية، وهي إعادة التأكيد على أن الحكومات تضع صحة وسلامة شعوبها على رأس أولوياتها مهما تكبدت من خسائر اقتصادية، حيث طالبت شعوبها بالبقاء بالمنازل وعدم مغادرتها إلا للضرورة القصوى، وفرضت بعض الدول الحجر الصحي الكامل، وذلك بهدف الحد من انتشار الفايروس.
السينما حاولت تخطي الأزمة لكن الأمر كان صعباً لأن مواقع التصوير والاستديوهات تبدو دائما كخلية نحل وتعج بالنجوم وطواقم الإخراج والإنتاج والمساعدين والفنيين والعمال بالمئات بل وأحيانا بالآلاف وعلى الرغم من بعض المحاولات لاتخاذ بعض الإجراءات والتدابير الاحترازية لحماية الجميع من فايروس كورونا إلا أن الجميع استسلموا في النهاية إلى ضرورة الرضوخ للأمر الواقع وتعليق التصوير وتأجيل إطلاق الأعمال لأن الأرباح لا تساوى شيئاً أمام إنقاذ الأرواح.
ولأن السينما دائماً ساحرة بكل ما تحمل الكلمة من معنى فإن وباء كورونا استدعى على الفور من ذاكرة السينما فيلم Contagion الذي أنتج عام 2011 عن رواية للكاتب الأمريكي دين كونتز ألفها عام 1981 ويحكي عن فيروس افتراضي انطلق من هونغ كونغ وتؤدي الإصابة به إلى الالتهاب الرئوي وارتفاع في الحرارة مع رعشة ورجفة في الجسد، وعبر أحداث الفيلم ينتشر الفايروس من خلال الخفاش إلى البشر ثم يصبح وباءً.. ويا لها من نبوءة.
ولا يجب أن ننسى أن صناعة السينما في العالم مثل قطع الدومينو التي تؤثر في بعضها البعض فإن مقولة شهيرة يمكن أن تكشف عن ارتباط الصين بنجاح هوليوود حيث يقال “عندما تسعل الصين تصاب هوليوود بالأنفلونزا” ومن أشهر الأمثلة في العام الماضي 2019 فيلم Avengers: Endgame الذي كانت الصين وراء تحقيقه أعلى الإيرادات حيث ساهمت دور السينما الصينية بحوالي 629 مليون دولار من إجمالي إيرادات الفيلم.
وحتى هذه اللحظة تشير التقديرات الأولية إلى أن وصول خسائر السينما العالمية إلى حوالي 17 مليار دولار، وكلما طال أمد الأزمة زادت الخسائر، فعلى سبيل المثال باعت الصين تذاكر سينما خلال الفترة من 24 يناير وحتى 23 فبراير الماضي بقيمة 4.2 مليون دولار بينما كانت مبيعات التذاكر خلال ذات الفترة من عام 2019 حوالي 1.76 مليار دولار.
لذا فإن خسائر هوليوود من المتوقع أن تكون ضخمة وصادمة بعد اجتياح الوباء للولايات واحدة تلو الأخرى على نحو مفاجئ وهو ما تسبب في صدمة لصناع السينما حيث أن بعض الطواقم بالفعل كانت في وسط أجواء التصوير وتسابق الزمن من أجل إنهاء الأعمال لكن الوباء جلل لذا تقرر تأجيل إطلاق فيلم Black Widow،Wonder Woman، Top Gun: Maverick.
المخرج مات ريفريس أيضا قرر عدم استكمال تصوير فيلم “باتمان”، وهو نفس ما حدث مع فيلم Jurassic World لكولين تروفور، وكذلك فيلم ريدلي سكوت The Last Duel.
أما فيلم Mission Impossible الذي كان من المقرر تصويره في إيطالياً فقد تم إلغاء التصوير بسبب تصدر إيطاليا لدول العالم لفترة طويلة في أعداد الإصابات والوفيات قبل أن تتخطاها الولايات المتحدة.
وقررت ديزني التي حققت رقماً قياسياً في شباك التذاكر في عام 2019 بأكثر من 11 مليار دولار تعطيل خطط توزيع إصدارها من فيلم Mulan والذي يعتبر إعادة إنتاج ملحمية لفيلم رسوم متحركة تم إصداره عام 1998، بتكلفة 200 مليون دولار، والذي كان من المتوقع إطلاقه يوم 27 مارس الماضي، بل منحت استديوهات ديزني موظفيها القادرين على العمل من المنزل إذناً بذلك، وحذت استديوهات بيكسار حذوها وتبعتهما العديد من الشركات والاستديوهات حول العالم.
والخسائر لم تتوقف على الجوانب المادية أو المعنوية بل إن بعض النجوم أصيبوا بفايروس كورونا، ومن أبرزهم النجم توم هانكس وزوجته الفنانة ريتا ويلسون حيث أصيبا في أستراليا حين كان هانكس يستعد لتصوير فيلمه الجديد الذي يقوم فيه بدور مدير أعمال مغني الروك الشهير ألفيس بريسلي وبعد أيام من الحجر الصحي والعديد من الشائعات عن وفاتهما، أعلنا خروجهما سالمين من الحجر الصحي وعودتهما إلى كاليفورنيا.
النجم العالمي إدريس ألبا أعلن عن إصابته بفايروس كورونا وبعدها مباشرة أعلنت زوجته صابرينا أنها أصيبت بالعدوى لأنها لم تستطع الابتعاد عن زوجها مما أدى إلى نقل العدوى إليها.
وأصيب الممثل النرويجي كريستوفر هيفجو والممثلة الإنجليزية إنديرا فارما من أبطال المسلسل الملحمي “صراع العروش” بفيروس كورونا، كما أصيبت بكورونا الممثلة الإسبانية إتزيار إيتونيو، بطلة المسلسل الشهير “لا كاسا دى بابيل”.
كما تلقى صناع السينما ومحبيها صدمة بعد الإعلان عن وفاة الفنان مارك بلوم نجم مسلسل “you”، بعد إصابته بفايروس كورونا.
وفي العالم العربي أصيبت المطربة هند البحرينية، بفايروس كورونا وخضعت للحجر الصحي في بلادها بعدما أصيبت بالعدوى في إسبانيا، كما أصيبت الفنانة المصرية رولا محمود بالفايروس أثناء تواجدها في لندن.
مصر أيضاً التي توصف بأنها هوليوود الشرق ضربتها الأزمة بعنف وسط التحضيرات لموسم دراما رمضان، وموسم أفلام عيد الفطر، وموسم أفلام الصيف، حيث أغلقت دور السينما ودار الأوبرا وتوقفت كافة الأنشطة الفنية التي لم تكن لتهدأ على مدار العام.
ولكن الارتباك أصبح سيد الموقف، فبعض المنتجين حاولوا تجاوز الأزمة من خلال تعقيم أماكن التصوير وتعقيم النجوم وأطقم العمل والاستعانة بمتخصصين في محاولة لفرض احتياطات طبية وتدابير للسلامة لكن في النهاية لم يكن هناك مفر من تأجيل التصوير رغم الخسائر الفادحة.
وهذا الأمر أيضا انعكس على صناعة السينما والدراما في الخليج حيث توقف تصوير الأعمال الخليجية التي كان من المقرر عرضها في موسم دراما رمضان 2020 بالإضافة إلى إلغاء عرض العديد من الأعمال مثل “فيلم نجد” للنجمة حياة الفهد، وفيلم “مفلح باشا” وفيلم “كويت مراكش كويت” وفيلم “مينون والمنخوليا” وغيرها.
ولا أحد يعلم متى ستعود تلك الأفلام أو غيرها إلى مواقع التصوير، لأن الأزمة حتى الآن بلا أمد أو أفق للحل في القريب العاجل، ولكن كلي أمل أن تنتهي خلال أشهر قليلة ويعود الناس لاستئناف حياتهم العادية ليعوض الجميع ما فاتهم، خاصة وأن العديد من العاملين في صناعة السينما يعملون بنظام العمل الحر “Freelancer” وبالتأكيد سيتضررون بشكل مباشر من هذا التوقف الإجباري عن العمل خلال هذه الفترة.
ولكن ولأن دائما ما نقول إن مصائب قوم عند قوم فوائد فإن شبكة نيتفليكس تشهد رواجاً غير مسبوق مع زيادة عدد الاشتراكات، وزيادة الضغط على الشبكة، حتى وصل الأمر إلى مطالبة بعض الحكومات للشبكة من أجل تخفيض جودة الصورة وإلغاء خاصية المشاهدة عبر جودة HD لأن شبكات الإنترنت لا تتحمل مع العزل المنزلي لمئات الملايين من الناس حول العالم، وما يصاحبه من ملل مما يدفع الناس للبحث عن الترفيه، كما أن بعض الدول حدث فيها توقف وعطل للخدمة قبل أن تعود للعمل بعد ساعات من العطل التقني.
ولأن الأزمة ضخمة وصناعة السينما لها تأثير مباشر على اقتصاديات عالمية ورغم أن الأزمة في ذروتها إلا بعض الدول الأوروبية تعهدت بإعفاءات ضريبية لدور السينما بالإضافة إلى صناع السينما لمساعدتها على تجاوز آثار الصدمة العنيفة ومن بين تلك الدول ألمانيا وفرنسا وإسبانيا وإيطاليا.
والمهرجانات أيضا لها نصيب من الأزمة بعدما أعلن منظمي مهرجان كان السينمائي أن دورة العام الجاري قد تعقد في نهاية يونيو أو أول يوليو إذا ما حدثت انفراجة في أزمة فيروس كورونا، ومهرجان الأقصر في مصر لم يستكمل أعماله وتم إلغاء حفل الختام بناء على قرار الحكومة بإيقاف جميع الفعاليات كما تم تأجيل الدورة الأولى لمهرجان البحرين السينمائي الدولي، بالإضافة إلى تأجيل مهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي الأول الذي كان من المقرر إقامته بمدينة جدة في السعودية.
وهذه ليست الكارثة الأولى من نوعها التي تضرب صناعة السينما في العالم لكنها وبحسب مؤرخين لم تحدث منذ وباء الإنفلونزا الإسبانية عام 1918 والذي سحق الصناعة تماما، ولكنها عادت من جديد لتتحدى كل الظروف لأنها صناعة قائمة على الإبداع والعقول والتي لا يمكن أن تكسر إرادتها أية أزمة مهما كانت قاسية.
ولأن في كل أزمة عبرة ودرس فإن نجوم الفن حول العالم أطلقوا حملات لدعوة الناس للبقاء في منازلهم وتنفيذ الإجراءات الوقائية التي تطلبها منهم الحكومات، بالإضافة إلى مشاركة بعضهم في حملات تبرعات للمتضررين من الأزمة، وغيرها من المبادرات التي تدل على رسالة الفن الراقية والسامية والتي ستعود أقوى مما كانت عليه لتملأ العالم بهجة وسعادة وتعيد النجوم المحبوبين إلى جمهورهم.
ولأنني دائما ما أفضل البحث عن الجوانب الإيجابية مهما اشتدت الأزمات فإنني أتوقع خلال الفترة القادمة أن تولد الإبداعات وتتفجر الطاقات، وتخرج المئات من القصص الملهمة والواقعية من رحم أزمة فايروس كورونا، سواء قصص بطولية للطواقم الطبية التي تكافح الوباء، أو من داخل أجواء العزل، وبعض قصص الناجين، بالإضافة إلى الابتكارات التي يمكن أن تخرج فجأة لإنقاذ العالم، وغيرها من القصص التي تصلح لإنتاجها وتقديمها للجمهور، وسيكون أكثر ما يميزها أن الجمهور عاشها في الواقع لذا أعتقد أنها ستلامس مشاعره بشدة.